"الإعدام أداة للقمع".. هل تحاصر إيران المعارضة وتُصادر الحقوق باسم الأمن القومي؟
"الإعدام أداة للقمع".. هل تحاصر إيران المعارضة وتُصادر الحقوق باسم الأمن القومي؟
وسط تصاعد التوترات الإقليمية بين إيران وإسرائيل منذ منتصف يونيو، أطلقت السلطات الإيرانية حملة قمع داخلية غير مسبوقة، متذرعة بـ"مكافحة التجسس" و"الإخلال بالأمن القومي"، وهي ممارسات وصفتها منظمة حقوق الإنسان الإيرانية بأنها "ترهيب ممنهج يستهدف كسر الأصوات المعارضة واستباق أي احتجاج شعبي محتمل".
وأفاد تقرير صادر في 29 يونيو الماضي عن منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، بأن السلطات نفذت 6 أحكام إعدام بحق أشخاص اتُّهموا بالتجسس لمصلحة إسرائيل، في محاكمات سرية افتقرت لأبسط ضمانات العدالة، وسط غياب الشفافية واستمرار تكميم الأفواه، ووفق التقرير، تجاوز عدد المعتقلين في مختلف أنحاء البلاد حاجز الألف، شملت الحملة ناشطين، صحفيين، فنانين، وأفراداً من أقليات عرقية ودينية كالأكراد والبهائيين واليهود، وجرت توجيه التهم تحت مظلة "الإخلال بالأمن القومي أثناء الحرب"، وهي صيغة باتت تستخدم سلاحاً قانونياً لتبرير القمع السياسي.
وشكل الهجوم على سجن إيفين الشهير في طهران يوم 23 يونيو الماضي، محطة مفصلية في هذه الحملة، حيث أعلنت السلطات عن مقتل 79 شخصًا، بينهم سجناء سياسيون، في ظروف لا تزال غامضة، أعقب الحادث نقل عشرات السجناء إلى مواقع مجهولة، ما أثار مخاوف دولية بشأن مصير معتقلين أجانب، من أبرزهم الفرنسية سيسيل كوهلر وشريكها جاك باريس، إضافة إلى الطالب الجامعي علي يونسي المعتقل منذ عام 2020 دون محاكمة عادلة.
وفي تعليق على هذا التصعيد، قالت رويا بوروماند، المديرة التنفيذية لمركز عبد الرحمن بوروماند الحقوقي ومقره واشنطن، لوكالة "فرانس برس": "النظام لا يخشى العدو الخارجي، بل المواطن الذي يطالب بحقوقه. ما نشهده ليس دفاعًا عن الوطن، بل حرب على الداخل باسم الولاء والأمن".
قمع الأقليات وتكميم الصحافة
في المحافظات الكردية، وثقت وكالة "هرانا" الحقوقية حملة شرسة من الاعتقالات طالت 300 شخص خلال عشرة أيام فقط، بينهم نساء وفتيات، على خلفية مزاعم الانتماء لجماعات معارضة، فيما رصدت منظمة "هينغاو" اقتحام قوات الأمن لعشرات المنازل، ومصادرة ممتلكات، واحتجاز أفراد دون أوامر قضائية، في ظل تعتيم إعلامي وتضييق مشدد على الصحفيين.
أما الطائفة البهائية، فقد تعرضت لحملة أمنية واسعة شملت اعتقالات ومداهمات في مدن مشهد ويزد وطهران، مع توجيه اتهامات تقليدية مثل "الارتباط بالخارج" و"الهرطقة"، وهي تهم طالما استخدمتها السلطة لإسكات النشاط المدني.
وطالت الاعتقالات رموزًا ثقافية، أبرزهم الكاتب حسين روناغي، المعروف بمقالاته في الصحافة الدولية، والمغني توماج صالحي، والناشط السياسي آرش صادقي، الذين تعرضوا للاعتقال والاستجواب في ظروف قاسية، قبل أن يتم الإفراج عنهم لاحقًا.
ويرى هادي قائمي، مدير مركز حقوق الإنسان في إيران، أن "النظام الإيراني يتصرف كرد فعل جريح، يواجه الأزمات بالقمع لا بالإصلاح، ويستبدل محاسبة الذات بترهيب الآخرين"، مشيرا إلى أن التصعيد الحالي يأتي في أعقاب مقتل قيادات عسكرية إيرانية خلال الضربات الإسرائيلية الأخيرة، وهو ما شكّل "صدمة أمنية" دفعت النظام إلى تفريغ غضبه في الداخل.
ولم يكن رئيس السلطة القضائية الإيرانية، غلام حسين محسني إيجئي، بعيدًا عن هذا النهج، إذ أصدر في اليوم الرابع من الحرب أوامر بمحاكمة "المتعاونين مع العدو" بشكل عاجل، ما حوّل المحاكم إلى أدوات انتقام سياسي تُدار خلف الأبواب المغلقة دون رقابة قضائية مستقلة.
ترهيب الجاليات الدينية
تجاوزت إجراءات القمع حدود السياسة لتطول حتى الجاليات الدينية الصغيرة. فقد استدعت السلطات 35 فردًا من الجالية اليهودية للاستجواب بشأن "ارتباطات مزعومة" بإسرائيل. رغم العدد المحدود، تعكس هذه الخطوة حالة الاشتباه العام، وتؤشر إلى نهج يدمج الأمن بالطائفية والتسييس المؤسسي.
وفي ظل تصاعد القمع، اكتفى الاتحاد الأوروبي بالتعبير عن "القلق"، في حين أدانت الولايات المتحدة "الإعدامات السياسية"، دون خطوات عملية أو عقوبات جديدة، ما يعكس تقاعسًا دوليًا يتيح للسلطات الإيرانية الاستمرار في سياستها دون مساءلة.
ووثقت منظمة العفو الدولية تنفيذ أكثر من 112 حكم إعدام في إيران منذ بداية يونيو، بينهم 21 شخصًا دون سن الخامسة والعشرين، معظمهم حُرموا من الحق في الدفاع القانوني، وتشير إحصاءات عام 2024 إلى أن إيران تصدرت قائمة الدول الأكثر تنفيذًا للإعدام، بمعدل فاق 850 حالة، متجاوزة دولًا بأكملها في "القائمة السوداء".
وتبدو السلطة الإيرانية اليوم وكأنها تخوض حربًا داخلية شاملة، تحوّل فيها كل شكل من أشكال المعارضة إلى جريمة، وتستغل خطاب "الخطر الخارجي" لتبرير العنف الداخلي، ومع غياب المحاسبة الدولية، يتكرس واقع مفاده أن الشعب الإيراني، مرة أخرى، هو الضحية الكبرى لصراعات لا يملك فيها أي صوت.
فرصة نادرة للمصالحة الوطنية
قال الدكتور محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، وخبير الشؤون الإيرانية، إن اللحظة الراهنة التي تمر بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في أعقاب الحرب الأخيرة مع إسرائيل، تمثل مفترق طرق حاسمًا، ليس فقط على مستوى السياسة الخارجية أو توازنات الصراع في الإقليم، بل على مستوى الداخل الإيراني ذاته، حيث تتشكل أمام القيادة الإيرانية فرصة نادرة لإعادة ترميم العقد الاجتماعي، وإطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة تُعيد بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها بمختلف مشاربهم، على غرار التجربة المصرية في السنوات الأخيرة.
وأوضح أبو النور، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن إيران تعيش اليوم، وربما للمرة الأولى منذ قرابة 46 عامًا، لحظة نادرة من التماسك الوطني، بعدما اتحد الشعب بمختلف أطيافه القومية والدينية والمذهبية في مواجهة ما اعتُبر عدوانًا خارجيًا مزدوجًا، إسرائيليًا وأمريكيًا، استهدف البنى التحتية الإيرانية ومراكزها السيادية والرمزية. هذا الاصطفاف الشعبي، الذي شمل الفرس والعرب والكرد والبلوش والتركمان، والشيعة والسنة والمسيحيين واليهود والبهائيين، شكّل لحظة وطنية نادرة تنبض بالمعاني السياسية العميقة.
وأشار إلى أن هذه اللحظة تفرض على القيادة الإيرانية، ممثلة في المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، والرئيس المنتخب حديثًا الدكتور مسعود پزشكيان، مسؤولية تاريخية في التقاط هذا الإجماع الشعبي وتحويله إلى نقطة انطلاق جديدة لمسار سياسي أكثر شمولًا. ذلك لا يتحقق، بحسب رأيه، إلا من خلال اتخاذ خطوات جريئة ومباشرة نحو مصالحة وطنية حقيقية، تبدأ بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، أو على الأقل منحهم عفوًا عامًا أو تصاريح خروج مفتوحة تضمن كرامتهم القانونية والإنسانية.
ونوّه إلى أن معظم هؤلاء المعتقلين كانوا محتجزين في سجن "إيفين" الشهير، قبل أن يتعرض لقصف إسرائيلي مباشر خلال الحرب الأخيرة، ما دفع السلطات الإيرانية إلى نقلهم إلى سجن طهران الكبير في "فاشفوريه"، في خطوة أثارت كثيرًا من علامات الاستفهام والاستياء لدى قطاعات واسعة من الشعب، بما في ذلك أولئك الذين التفوا حول النظام في مواجهة العدوان. هؤلاء لا يمكن تجاهلهم أو معاملتهم كمصدر تهديد، بعد أن أظهروا استعدادهم للتضحية حين استُهدفت البلاد ككيان جامع.
وأضاف أبو النور، أن المراقب المتابع للشأن الإيراني بتمعن يرى أن القيادة الإيرانية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تحتاج إلى اتخاذ قرارات شجاعة وذات بعد سياسي شامل، توازي حجم اللحظة وتليق بالتضحيات التي قدمها الشعب. فالحفاظ على حالة التوحد الداخلي لا يكون بالرهان على التعبئة القومية المؤقتة وحدها، بل بالتأسيس لعقد وطني جديد، يُعيد إدماج كل المكونات المجتمعية في العملية السياسية، ويضمن لها الشعور بالمواطنة الكاملة دون تمييز أو استثناء.
ولفت إلى أن التجربة المصرية، منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الحوار الوطني الذي أطلقته القاهرة في الأعوام الأخيرة، تُعد نموذجًا مهمًا يمكن الاستفادة منه في الحالة الإيرانية. فقد استطاعت مصر أن توازن في فترات دقيقة بين مقتضيات الأمن القومي من جهة، ومتطلبات الاستقرار الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، وأن تستخدم الحوار بوصفه أداة لحشد الجبهة الداخلية وتخفيف التوترات.
وأشار إلى أن النماذج المستلهمة من مصر لا تقتصر على البُعد السياسي فحسب، بل تمتد إلى المعمار والمركزية الإدارية، حيث تدور نقاشات حاليًا حول نقل العاصمة الإيرانية من طهران إلى مدينة "مكران"، على غرار ما فعلته مصر بنقل العاصمة الإدارية إلى موقع استراتيجي جديد، ما يعكس إدراكًا عميقًا لدى دوائر القرار الإيراني بأهمية إعادة صياغة منظومة الحكم وإدارة الدولة بما يواكب التحولات الجذرية التي تعصف بالإقليم.
واختتم الدكتور أبو النور تصريحه، قائلاً إن مستقبل إيران في المرحلة المقبلة مرهون بقدرتها على بناء جبهة داخلية صلبة، لا بالتعبئة الآنية ولا بالشعارات، بل عبر مسار مصالحة وطنية عميقة، تصون وحدة التراب الإيراني، وتحمي نسيجه الاجتماعي، وتضمن انتقالًا سياسيًا مستقرًا يتسق مع تحديات اللحظة، دون أن يفقد إيران قدرتها على الصمود أو مناعتها الاستراتيجية.
الإعدام أداة قمع
من جانبها، أكدت المحللة السياسية الدكتورة إيمان بخيت، الخبيرة في الشأن الإسرائيلي، أن أخطر ما يهدد المجتمعات المعاصرة هو الانتهاك الممنهج للحريات العامة وحقوق الإنسان، لا سيما الحق الأساسي في الحصول على محاكمة عادلة. وأشارت إلى أن الحالة الإيرانية تُعد مثالاً صارخاً لهذا التدهور، حيث يعاني المواطن الإيراني، منذ وصول التيار الإسلامي إلى الحكم عام 1979، من قمع ممنهج ومتعدد الأوجه، يشمل مختلف شرائح المجتمع دون استثناء.
وقالت الدكتورة بخيت، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن أحكام الإعدام باتت سلوكاً مألوفاً في النظام القضائي الإيراني، وتُنفّذ في كثير من الأحيان دون ضمان الحد الأدنى من معايير المحاكمة العادلة، وهو ما يمثل انتهاكاً مباشراً وجسيماً للقانون الدولي الإنساني وللمواثيق الحقوقية التي تكفل للفرد الحق في الدفاع عن نفسه ضمن إجراءات قضائية شفافة ومستقلة، وتحوّلت المحاكمات إلى واجهات شكلية، تفتقر إلى الشفافية وتُدار تحت وطأة التوجيهات الأمنية، بما يُفقد القضاء استقلاليته ويُحول العدالة إلى أداة للقمع.
وأضافت أن وتيرة الاعتقالات التعسفية تشهد تصاعداً مستمراً، لا سيما بين أبناء الأقليات الدينية والعرقية في البلاد، ما يؤثر بشكل خطير ومباشر على حرية التعبير والحريات العامة. وأوضحت أن البيئة العامة في إيران أصبحت طاردة لأي رأي معارض، حيث تسود ثقافة الخوف ويُفرض الصمت بقوة التهديد والعقاب، الأمر الذي يُحول الدولة إلى ساحة خالية من التعددية ومجتمع عاجز عن التعبير عن تطلعاته.
واعتبرت الدكتورة بخيت أن هذا النهج بات أحد أبرز أدوات السلطة في إسكات المعارضة وتبرير الانتهاكات بحق النشطاء والمعارضين، إذ غالباً ما يُتهم الأفراد بالتجسس أو العمالة لقوى أجنبية دون أدلة كافية، ويتم الزج بهم في محاكمات صورية تفضي إلى أحكام بالإعدام تُنفذ بسرعة ودون مراجعة، في مشهد يتكرر بانتظام كوسيلة لبث الرعب وفرض السيطرة الكاملة.
وشددت على أن النظام الإيراني لا يتجاوب مع الضغوط الدولية، بل يعتبر قضايا حقوق الإنسان والحريات الداخلية شأناً سيادياً وأمناً قومياً غير قابل للتفاوض. وأكدت أن التجارب أثبتت أن العقوبات والعزلة الدولية لم تُحدث أثراً يذكر في تغيير السياسات القمعية لطهران، التي ما تزال تعتمد منذ عقود سياسة الترهيب والتصفية لكل من يجرؤ على معارضتها.
وخلصت الدكتورة بخيت إلى أن مستقبل الحريات وحقوق الإنسان في إيران لا يبدو واعداً في ظل هيمنة العقلية الأمنية، واستمرار القمع كأداة للحكم، وانغلاق النظام على أية إصلاحات أو مسارات قانونية عادلة. فمصير المعارضين -كما قالت- يتأرجح بين السجن الطويل والموت، في بلد لم يعد يُعرف فيه القانون إلا بوصفه سيفاً مسلطاً على رقاب المختلفين.